مقابلات
هل كان حمورابي ملكا عادلا؟
أفرام عيسى
يوسف يتناول مفاتيح الحضارة في «ملحمة دجلة والفرات»
باريس: انعام كجه جي
هي جولة معاصرة في ارجاء حضارات قديمة، مكتوبة بأسلوب روائي. هكذا ارادها الباحث العراقي المقيم في فرنسا، الدكتور افرام عيسى يوسف، لقارئ كتابه الشيق «ملحمة دجلة والفرات» الصادر بالفرنسية عن دار «لارمتان»، وظهرت طبعته العربية، حديثاً، عن دار «الحوار» في سورية، بترجمة للدكتور علي نجيب ابراهيم.
هي جولة معاصرة في ارجاء حضارات قديمة، مكتوبة بأسلوب روائي. هكذا ارادها الباحث العراقي المقيم في فرنسا، الدكتور افرام عيسى يوسف، لقارئ كتابه الشيق «ملحمة دجلة والفرات» الصادر بالفرنسية عن دار «لارمتان»، وظهرت طبعته العربية، حديثاً، عن دار «الحوار» في سورية، بترجمة للدكتور علي نجيب ابراهيم.
إذن هي جولة في ما كان يسمى ببلاد ما بين النهرين
(ميزوبوتاميا)، تبدأ من سومر وأكد، وتمر ببابل وآشور حتى تصل الى نهاية القرن
الأول قبل الميلاد.
والمؤلف من مواليد قرية سناط، في أقصى الشمال
العراقي، عام 1944. وقد كانت قريته آنذاك تتبع لواء الموصل، وبعد التقسيمات
الجديدة صارت تابعة لقضاء زاخو في محافظة دهوك، بدون ان تبارح موقعها الجبلي الذي
جعل منها شاهدة على فصول دامية من الاقتتال في كردستان.
وزاخو، المدينة التي اعطت اسمها للقضاء كله (وللقدر)،
هي التي تغنى بها العراقيون، ايام الزعيم عبد الكريم قاسم، كعلامة حدودية من
علامات جمهورية فتية تمتد «من زاخو لحد الكويت». لكن تلك اغنية عتيقة عمرها اربعون
عاماً، جاءت بعدها احداث وسياسات ومساومات اقليمية دفعت بأبناء سناط، وآلاف القرى
الشمالية الأخرى الى هجرات قسرية، وتقطعت السبل بينهم وبين مساقط الرؤوس، ثم ظهرت
على الخريطة خطوط عرض محروسة بالطائرات الأميركية، تكفلت بنسف آخر فلول الحنين.
بعد هذا الموجز، أليس من السذاجة ان نسأل الدكتور
افرام يوسف عن الريح التي حملته من سناط الى باريس، وعن اسباب غربة زادت على ربع
قرن؟
لكن الرجل مهجوس بمسقط رأسه، وقد وضع عنه كتابه الأول
«عطور الصبا في سناط» الصادر بالفرنسية عام 1993. ويقول انه فوجئ بنفاد الطبعة
الأولى خلال اشهر قلائل. فقد تلقفها اصحاب الفضول من الفرنسيين، وكذلك العراقيون وأصدقاؤهم
من العرب المهاجرين، ممن لم يعثروا بعد على ترياق يشفي من مرض الحنين الى الأوطان.
في سناط، اتم صاحبنا دراسته الابتدائية في مدرسة كانت
قد افتتحت بعد تخطيط الحدود بين العراق وتركيا عام 1926، ومنها انتقل الى الموصل لإتمام
تعليمه الثانوي، حتى اذا حلت السبعينات بدت القرية الجبلية على حافة الهاوية،
جغرافياً ومجازاً، فقرر السفر الى فرنسا لدراسة الحضارات القديمة في جامعة نيس،
وحصل على الدكتوراه عن اطروحة حول عهد الاتراك السلاجقة، وعلى دكتوراه ثانية في
الفلسفة عن اطروحة بعنوان «واقعية الانسان عند ابي حامد الغزالي».
في كتابة «ملحمة دجلة والفرات» يضع افرام يوسف عدة
الفيلسوف جانبا، ويستعير قلم القاص وريشة الرسام ليطوف بنا في مواقع المدن الاثرية
والأنهار الخالدة، يتأمل رموزها ومعالم خصوبتها، لكي يكشف لنا، او بصحبتنا، اسرار
البلاد التي صاغت للانسانية مفاتيح الحضارة.
معه، نفهم كيف باشر السومريون، قبل خمسة آلاف عام،
تأسيس المدن والعيش في نظام اجتماعي يكفل لهم التطور الفكري والروحي والحرفي. كما
نتعرف الى ظهور العلامات المسمارية، أول كتابة في التاريخ، تلك التي سمحت للسومري
ان يدون نشاطاته وان يخزن خبراته ومعارفه وينقلها الى الاجيال اللاحقة.
انه كتاب لنا ولأبنائنا، يحكي باسلوب شاعري وحميم عن
ملحمة جلجامش، وزقورة بابل، وقيثارة اور، ومسلة حمورابي، والجنائن المعلقة، ومكتبة
آشور بانيبال التي اشتملت على اكثر من ثلاثين الف لوح طيني في شتى العلوم
والمعارف.
ويسأل المؤلف، في احد فصول كتابه، هل كان
حمورابي ابو القوانين ملكاً عادلاً؟ يا لفداحة
السؤال بعد كذا قرن من التجارب الناجحة والفاشلة في حكم أبناء الرافدين! ويرد على
سؤاله: «لقد أرسى حمورابي دعائم الشرع، واقام بعض المساواة بين الافراد أمام
القانون، وهو ـ وان لم يضع نهاية للامتيازات العائدة الى النسب والوظيفة ـ لم يحط
من شأن رعاياه من الدرجة الثانية. فقد حمى الضعفاء والذين لا سند لهم، والمظلومين،
واليتامى، والنساء، والارامل، وهذا ما لم تحققه دوماً الاوطان الحديثة او التي
تدعي الحضارة. فالجوهري لم يكن تحقيق العدالة والحرية لجميع الناس، فقد كان في
المجتمع عبيد، بل كانت الكرامة واحترام حقوق كل فرد فيه وفق مستواه».
ثم يعود المؤلف ليسأل متحدياً، والنفس الموجوعة أمارة
بالأسئلة: «هل يوجد في عصرنا قادة كثر في مستطاعهم ان يعلنوا ما اعلنه حمورابي ملك
بابل في استهلال شرعته: يمتد فيئي الموائم على مدنيتي،
وقد ضممت الى صدري شعب بلاد سومر وأكد، وبفضل حمايتي عرفوا رغد العيش، اذ لم أتوان
عن حكمهم في جو من السلام، وبحكمتي حميتهم».
لقد عاد الدكتور افرام يوسف الى العراق عام 1980،
واقام في وطنه فترة يبحث عن مكان له، ثم قفل راجعاً الى فرنسا ليعمل في التدريس
الجامعي والبحث والتأليف، وما زالت سناط تغمز له بعينها من بعيد.
6 اكتوبر 2001