vendredi 3 mars 2017



 سناط، ܐܣܢܟ اول مقال حول الكتاب.
بعد صدور الكتاب عام 1993 ، كتب الأستاذ هلكوت حكيم أستاذ في جامعة سوربون مقالا عن كتاب افرام عيسى يوسف الذي صدر في دار النشر الفرنسية "لارماتان". و في عام 2009 قام بنشره مشكورا في كتاب يحمل اسم "كتابات من الاحداث" في دار اراس في اربيل.


اليكم هذا المقال:




ذكريات قرية مسيحية في كردستان:
عطور الصبا في سناط[1]
هلكوت حكيم
1993
         كي لا تمر ذكريات الطفولة وكأنها لم تكن، كي لا يواري النسيان ترابه على أشخاص كانوا ولا يزالون أحياء في مخيلة الإنسان الذي ترعرع بينهم قبل ما يقرب من نصف قرن، ولكي يعيد إلى "سناط" التي أنجبته حياتها وحيويتها.
لقد  كتب افرام )ايشو يوسف( هذا الكتاب معتمدا على ما لم يمسحه الزمن بعد من ذاكرته حول هذه القرية المسيحية في كردستان العراق. سناط، بناها اهلها قبل قرون. لا ندري لماذا تركوا مساكنهم القديمة المحيطة بها. أهربوا من قساوة الطبيعة وشحتها؟ أم من تعسف الإنسان وقسره؟ ولكي نراهم يعيشون في منطقة جبلية على علو 1600 متر ليمنحوها بمرور الزمن حياة أخرى، غير القفر التي كانت تقبع فيه. فتنمو القرية على السفوح الداخلية من جبل دائري اسمه زنارا. وكأن السكان اختاروا هذا المكان للاحتماء به من هجمة المهاجمين. وكم كانت الهجمات هناك كثيرة عبر التاريخ! وكم حمتهم وعورة الجبال من بطش الغزاة وساعدتهم على البقاء!
       في شرق القرية نهر صغير يلمع كما تلمع السمكة في الماء. يغطيها الثلج طوال أشهر من السنة. البيوت وما في حدائقها من أشجار الجوز والحور والرمان والتين يتأبط الواحد ظهر الآخر في اتجاه القمم الشامخة. وفي وسط سناط ساحة صغيرة يرتفع فيها أقواس كنيسة عمرها قرن عديدة، أهداها بانوها إلى مريم العذراء وسموها باسمها.
       يعيش سكان هذه القرية ككل الكلدانيين والآشوريين في صمت. يحافظون على خصوصيات ثقافتهم منذ عشرات القرون والتي تمثل واحدة من اعرق ثقافات المنطقة. ينقلوها عبر الأجيال ومن خلال محيط تزامن فيه التسامح والرفض. مثلما تعاقب فيه القبول والقمع. لهذا الشعب لغة غدت عند الآخرين من عداد آثار متحف اللغات. غير أنها حية بينهم. فمازالت الآرامية، اللغة التي تخاطب بها المسيح، تتطور وتحافظ على جذورها بين الناطقين بها حتى يومنا هذا، في ظروف صعبة ولا شك.
       ترسم هذه الذكريات الحياة في سناط في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات. كان الناس يعيشون آنذاك من الزراعة والرعي ومما ينتجونه من الطبيعة السخية بأشجاره العالية ويبيعونه في المدن أو القرى الأخرى. وكذلك مما ينتجونه من تربية الحيوانات أو ما تصنعه أياديهم. ولكي يصلوا إلى اقرب مدينة، كان عليهم أن يسيروا مسافة يوم مشيا على الأقدام أو على ظهور البغال وعبر طرق ملتوية تحدها رهبة الجبال العالية من جهة وهاوية الوديان العميقة من جهة أخرى. ولو أن المسافر كان يعرف ساعة سفره، غير انه لم يكن يعرف اليوم الذين يعود فيه، لأنه لم يكن واثقا لا من وصوله إلى المدينة ولا من عودته منها. إذ كانت الطرق مليئة بقطاع الطرق ولا أحد يدري من أين يخرجون. فكانت لحظات الانتظار مليئة بالقلق وساعة العودة لحظة فرح كبير. فإضافة الى سلامة الرجوع كان المسافر يحمل لأهله هدايا من المدينة، هذا الاسم الذي كان بالنسبة للكثير من سكان سناط محاطا بهالة من الأسرار والألغاز. فمنها جلب أحد سكان القرية )راديو( صندوقا صغيرا يخرج منه صوت رجال ونساء يتحدثون أو يغنون ما أن يمس صاحبه جزءا بارزا منه. فكان من الصعب على القرويين تصديق ذلك. والأصعب من ذلك تفسيره.
       تبدأ الصفحات الأولى من الكتاب بولادة الراوي. وحين يزف صبي من القرية البشرى إلى الأب، يقرر هذا الأخير مكافأته بأجمل ما يملكه. تتوارد الذكريات بعد هذا الواحدة تلو الأخرى، الشجية منها والقاسية، السعيدة منها والحزينة، الفكهة منها والمريرة لتعطي في النهاية صورة شاملة لمجتمع قروي صغير. نرى أهل القرية متسرعين إلى قلع ما زرعوا من نبات التبغ، ذلك لأنهم رأوا رجلا من بعيد قادما، ظنوه المفتش الحكومي الذي سوف يجبرهم على دفع غرامة لا طاقة لهم بها. ذلك لأنهم زرعوا ما تـحرم الدولة زراعته. وإذا بالقادم قس جاء يؤدي بينهم واجبه الروحي. ولكنهم تعرفوا عليه بعد فوات الأوان. وهذا البغل الذي عاش مع أصحابه سنوات ينقل الحمال عبر مسافات طويلة دون شكوى حتى يصبح مع الزمن جزءا من العائلة. وحين يسقط في أحد الأيام تحت وطأة حمله، وربما من تعب السنين، تبدو أمامهم واحدة من هذه النهايات النبيلة التي تترك حزنا عميقا، كالسفر الأخير لرفيق نكن له الكثير من الأحاسيس. من خلال هذه الحادثة، أو الفاجعة، نشم عبير هذه العلاقة القوية بين الإنسان والحيوانات التي تخدمه وتعيش معه وقد تنام أحيانا قرب غرفته التي يقدمها لها خوفا عليها من اللصوص.
       والأبناء الصغار في مجتمع كمجتمع سناط يعيشون في عالم النساء. يذهبون إلى حماماتهن الجماعية حتى ذلك اليوم الذي تخبر الأم فيه ابنها بأنه لن يستطيع بعد مشاركة الآخرين والأخريات في تلك اللحظات السعيدة. لان عمره تجاوز العاشرة قليلا. وفي هذه الفترة يلقي الأولاد نظرات مختلفة عما سبق على الأجساد العارية للنساء ويحكمون بذلك على أنفسهم بنهاية مرحلة من حياتهم وبداية مرحلة أخرى.
 ولكي يدخل الصبي عالم الرجال عليه أن ينتظر ذلك المساء الذي يتعشى فيه لأول مرة على مائدة أبيه. عندها تبدأ فاتحة عهد جديد من حياته. بهذا يطرق باب عالم الرجال.
       وبعد فترة من ترك الراوي عالم النساء الجميل، يكتشف الظلم الذي تعاني منه المرأة. يتذكر تلك التي قطع زوجها انفها بدافع الغيرة. فتترك القرية وتذهب إلى المدينة. وتعود بعد سنوات تحمل أنفا صناعيا لتنسى صورة الماضي. ولكن لا هي ولا الآخرين لم
ينسوا الصورة. فالماضي بالنسبة لها حاضر ومستقبل.
       هذا الكتاب وليد مخاض حنين مؤثر. يزخر بذكريات يسجلها الراوي بأسلوب وجيز. ولا يقتصر على سرد الحوادث بل يصور أيضا مجتمعا له تقاليده وعاداته وتنظمه قيم وقوانين واعتقادات راسخة في ذهن الناس منذ أقدم العصور. ويكشف لنا محركات الجماعة المادية منها والروحية، الواقعية منها والأسطورية. لهذا يتجاوز الكتاب مجرد ذكريات شخصية.
     تتوقف الكلمات على عتبة العالم الجديد، الذي يصل إليه الراوي ليستمر في تعلمه بعد أن أكمل المرحلة الابتدائية. ولم يكن هذا العالم الجديد غير مدينة الموصل قبل أربعة عقود تقريبا. كانت هذه المدينة تعني الكثير بالنسبة للصبي الذي لم تر عيناه قبل غير قريته النائية. كانت الموصل منطلق حياة أخرى.





[1] عرض لكتاب يوسف افرام ايشو المنشور بالفرنسية:
Yousif Ephrem-Isa, Parfums d’enfance à Sanate, un village chrétien au Kurdistan irakien, Harmattan, Paris, 1993.
(عطور الصبا في سناط ، قرية مسيحية في كردستان العراق)